سورة فاطر - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


{الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}.
التفسير:
قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
فاطر السموات والأرض: أي مبدعهما، وخالقهما، على أتم نظام وأكمله.
ومنه الفطرة، وهى ما ركّب اللّه سبحانه وتعالى في الإنسان من غرائز وميول، يولد بها الإنسان، كصفحة بيضاء نقية.
والجعل: إضافة على أصل الخلق، وهو العمل الوظيفى للمخلوق، حسب طبيعته.. كما يقول سبحانه: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً} [5: يونس].
وقد شرحنا هذا المعنى في مواضع أخرى.
فالحمد للّه، من ذاته، ومن المخلوقات لذات الخالق، حمدا على الخلق والإيجاد، وعلى ما أمد به ما خلق، من أسباب البقاء، وعلى أن جعل الملائكة رسلا إلى الناس، تحمل إليهم رسالات السماء، بالهدى والنور، وتستغفر للمؤمنين باللّه، وتصلى على رسول اللّه، صلوات اللّه وسلامه عليه.
وقوله تعالى: {مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} صفة للأجنحة، وتدل هذه الصيغ على كثره المعدود، وأن الملائكة ذوو أجنحة، وأنهم في ذلك ثلاثة أصناف، صنف له جناحان، وصنف له ثلاثة أجنحة، وثالث له أربعة أجنحة.. وهذه الأجنحة من نور، تتشكل من هذه الأنوار اللطيفة كما تتشكل صور الأشياء من عالم المادة.
وقوله تعالى {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ} هو ردّ على من يتصور أن ذوات الأجنحة لا تكون إلا بجناحين، وأن الثلاثة لا يقوم بها نظام الطائر، كما أن الأربعة هى بمنزلة الجناحين.. وهذا في تقدير الخلق، ولكن الخلاق العظيم المبدع، يخلق ما يشاء، ويزيد في الخلق ما يشاء.. {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإذا جعل لطائر، ثلاثة أجنحة، أو أربعة، أو ما شاء اللّه من أجنحة، كان ذلك بتقدير، وعلم، وحكمة.. {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [7: السجدة] قوله تعالى: {ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي إن القدرة كلّها بيد اللّه وحده، لا يملك أحد شيئا بقدر به على أن يجلب خيرا أو يدفع ضرّا، إلا بإذن اللّه وتقديره.
فما يرسله اللّه سبحانه وتعالى إلى الناس، من رحمة، أي من خير ورزق، لا يستطيع أحد رده، والحيلولة بينه وبين أن يصل إلى حيث أراد اللّه.
وما يمسك اللّه من شىء، فلا يستطيع أحد أن يرسله، ولا أن يزحزحه عن الموضع الذي هو فيه.
وقد قيّد ما يرسل من اللّه- سبحانه- بالرحمة، إشارة إلى ما للّه سبحانه وتعالى من فضل وإحسان، وأنه رحيم بعباده، وأن رحمته وسعت كل شيء وأطلق ما يمسك، ولم يقيد بالرحمة أو غيرها، إشارة إلى أن اللّه سبحانه إنما يمسك ما يمسك لاضنّا بما يمسكه، وإنما لحكمة وتقدير.. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الذي عز سلطانه فملك كل شىء، والذي قام ملكه على الحكمة، فلا يقع فيه شيء إلا بتقدير الحكيم العليم قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} وإذا كان اللّه سبحانه وتعالى، هو مالك الملك وحده، والمنصرف فيه بلا شريك يشاركه- فإن أي مخلوق يتوجه إلى غير خالقه، ويطلب الرزق منه، يكون قد ضل، ولن يبوء إلا بالخيبة والخسران.
وقوله تعالى: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} استفهام إنكارى، ينكر على الذين يولّون وجوههم إلى غير اللّه، ويلتمسون الرزق من غيره- ينكر عليهم هذا الضلال، ويتبعهم إلى هذا المتجه الخاطئ الذي يتجهون إليه.. والإفك:
الافتراء والبهتان.
قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}.
هو عزاء كريم من اللّه سبحانه وتعالى، للنبى صلوات اللّه وسلامه عليه، فيما يلقى من قومه من تكذيب، فهو ليس وحده الذي كذّب من قومه، فإن إخوانه الأنبياء من قبله، قد لقوا من أقوامهم مثل ما لقى، من سفاهة السفهاء، وتطاول الحمقى، وتكذيب الضالين والجاهلين.
وقوله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} تهديد لهؤلاء المكذبين، وبأن أمرهم إلى اللّه، وأنهم راجعون إليه، فيقضى فيهم بحكمه، ويجزى المسيء منهم بما عمل!.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وعد اللّه: هو ما وعد اللّه سبحانه في آياته، وعلى لسان رسوله، من البعث والحساب.. والجزاء، والجنة والنار.
وهذا الوعد حق، وهو آت لا ريب فيه.
وقوله تعالى: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا} تنبيه للغافلين عن هذا اليوم، المتناسين أو الناسين لهذا الوعد، المشغولين عنه بما بين أيديهم من متاع الدنيا وزخارفها.
وقوله تعالى: {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الغرور: هو الشيطان، وسمى غرورا، لأن يغر الناس، ويخدعهم، ويزين لهم الضلال، فيأتونه وكأنه الهدى.
وكل ما يشغل الإنسان عن اللّه، وعن العمل الصالح، هو غرور، لأنه يغرر بالإنسان ويخدعه،.. ومنه الغرر في البيوع. وقد حرمه الإسلام لما فيه من مخاطرة وغبن.
قوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ}.
هو وصف كاشف لهذا {الغرور} وهو الشيطان.. إنه عدو للناس، ومن الحكمة أن يحذر المرء عدوه، وألّا يأمن جانبه.. وهو عدو خفى، وهذا يقضى بالانتباه الشديد إلى هذا العدو، وإلى الأساليب والحيل التي يدخل بها على الإنسان.
فكل منكر، وكل ضلال، من ورائه شيطان يدفع الإنسان إليه، ويزين له الطريق نحوه.
فإذا واجه الإنسان منكرا، أو تلبس به، فليذكر أنه ضحية عدوه هذا، وأنه قد تمكن منه، ونال غايته فيه.. فليجتهد ما استطاع أن يخرج من سلطان هذا العدو، وأن يفسد عليه صنيعه به، وأن يشد عزمه وإرادته، وأن يستحضر جلال اللّه وعظمته، وأن يذكر أنه في موقفه هذا، على الطريق إلى جهنم، والشيطان هو الرائد إليها، والداعي إلى عذاب السعير.
قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}.
وحزب الشيطان وأولياؤه هم الكافرون، والكافرون لهم عذاب شديد أما أعداء الشيطان، فهم المؤمنون، الذين خرجوا عن سلطان هذا {الغرور} فاستجابوا للّه، وآمنوا به، وعملوا الصالحات.. وهؤلاء {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} فاللّه سبحانه وتعالى يتفضل عليهم بالمغفرة لما وقع منهم من ذنوب، لأنهم إذا أساءوا أحسنوا، وإذا أذنبوا تابوا.. واللّه سبحانه وتعالى يقول في عباده المؤمنين: {وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ.. أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [22: الرعد] ويقول النبي الكريم: {وأتبع السيئة الحسنة تمحها}.


{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ}.
وقفت الآيات السابقة من المشركين موقف الناصح الداعي إلى الحق، الكاشف عن آيات اللّه، وآلائه، المحذّر من بأس اللّه وعذابه، المواسى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، من تكذيب المشركين له.. فتلك هى سبيل الضالين مع رسل اللّه في كل أمة.
وهنا في هذه الآية، يتلقى النبي من ربّه عزاء جميلا، عن مصابه في قومه، ودعوة كريمة إلى الرفق بنفسه، والترويح عنها، والإمساك بها بعيدا عن موطن الحزن والحسرة، على من لا يستحقون الأسى عليهم، والحزن لهلاكهم.
إن نفسه أعزّ على اللّه وأكرم من أن تشقى هذا الشقاء المعنّى، في سبيل نفوس رخيصة ضائعة، لا يقام لها وزن.
وفى قوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} استفهام إنكارى، يراد به كشف هؤلاء المشركين للنبىّ، وأنهم قد زين لهم سوء أعمالهم، فرأوها حسنة، وأنهم من أجل هذا لن يتحولوا عمّا هم فيه أبدا.
إنهم يرون الخير كلّ الخير، والحق كلّ الحقّ، فيما هم فيه.. ومن كان على هذا الرأى فيما عنده، فلن يقبل بحال أن يستبدل به غيره أبدا.
وفى النظم القرآنى كلام محذوف، دل عليه السياق، والتقدير: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} أيستجيب لداع يدعوه إلى غير هذا الذي زيّن له؟ ذلك ما لا يكون.. وهؤلاء المشركون الذين أمسكوا بشركهم، قد زيّن لهم هذا الشرك، فرأوه حسنا.. وإذن فلا يرجى منهم أن يستجيبوا لك أبدا.. ومن هنا فإن الأسى عليهم، والجزع من المصير الذي هم صائرون إليه- لا محلّ له، إذ كان هو المنزل الذي تخيّروه ورضوا به، وإذ كان ذلك هو الزاد الذي لن يستسيغوا غيره. {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ}.
!
وفى قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} إشارة إلى قضاء اللّه في هؤلاء المشركين، فإنهم ممن أضلهم اللّه.. {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً} [17: الكهف].
قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن اللّه سبحانه وتعالى، يبعث رسله بالرحمة إلى عباده، فيقبلها قوم، وبأباها آخرون. فهى أشبه بالغيث، ينزل من السماء، فتحيا بها أماكن منها، وتخرج الحبّ والثمر، على حين يتحول به بعضها إلى أحراش، تؤوي الهوام والحشرات.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً} هو معطوف على الجملة الابتدائية في قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} وذلك مثل قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}.
والتقدير: إن اللّه يضل من يشاء ويهدى من يشاء، وهو سبحانه {الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً} واختلاف النظم في {يَهْدِي} بالفعل المتجدد {وأَرْسَلَ} بالفعل الماضي إشارة إلى أن الإرسال يسبق الآثار المترتبة عليه، وهى الإهداء، أو الإضلال، والإحياء أو الإماتة.. فالإرسال سابق، ولهذا عبّر عنه بالفعل الماضي.. والآثار المترتبة عليه، مستمرة، لا تنقطع، ولهذا عبر عنه بفعل المستقبل {يهدى}.
وفى قوله تعالى {كَذلِكَ النُّشُورُ}.
إشارة إلى قضية البعث، التي هى مبعث ارتياب المشركين، وتكذيبهم للرسول في كل ما يدعوهم إليه.
وفى هذه الإشارة دليل مادىّ محسوس يشهد لإمكانية البعث، وأنه إذا كانت الأرض الميتة المجدبة، ينزل عليها الماء، فتلد هذه المواليد العجيبة، من النبات، والزهر، والثمر، فإن هذه الأرض التي أودع في ترابها الناس، ليس ببعيد أن ينفخ اللّه فيها نفخة الحياة، فتخرج ما في بطنها من آدميين!.
قوله تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً.. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ}.
أي أن هؤلاء المشركين إنما يتخذون هذه الآلهة التي يعبدونها من دون اللّه، ليكونوا لهم شفعاء عند اللّه، ولينالوا بهم عزا وجاها، كما يقول سبحانه {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [81: مريم] ولقد أخطأ هؤلاء المشركون الطريق إلى العزة.. إن العزة للّه جميعا، لا يملك أحد منها شيئا، فمن أراد العزة ولم يلتمسها من اللّه، فلن ينال منها شيئا.
وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}.
إشارة إلى أن اللّه طيب لا يقبل إلا طيبا، ولا يرد موارد عزّته إلا الطيبون.. والمشركون نجس، وإذن فلا طريق لهم إلى اللّه، ولا شيء لهم من العزة التي هى ملك يمينه.
وأنهم إذا أرادوا أن يأخذوا طريقهم إلى اللّه، وإلى العزة التي بين يديه، فليتطهروا من شركهم، وليؤمنوا باللّه، وبغير الإيمان باللّه لن يكون لهم طريق إلى اللّه.. فالكلم الطيب هو كلمة التوحيد: لا إله إلا اللّه وقوله تعالى: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} إشارة إلى الإيمان باللّه يقيم صاحبه على أول الطريق إلى اللّه، ثم تكون الأعمال الصالحة التي تقوم وراء الإيمان هى التي ترفع صاحبها إلى اللّه، وتدنيه منه.. فإن الإيمان- مجرد الإيمان- دون عمل صالح، هو خير معطل، أشبه بالنبتة الصالحة في الأرض الطيبة، لا يصيبها ماء! فإذا أصابها الماء اهتزت لها الأرض وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
فالعمل الصالح يزكى الإيمان، وينميه، ويثبت دعائمه، ويرفع بنيانه وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ}.
مكر السيئات: تدبيرها، والاحتيال في التمكين لها.
وفى هذا تهديد للمشركين الذي يغرسون في مغارس السوء، ويعملون في مجال الضلال، إنهم لا يجنون من غرسهم هذا إلا أنكد الثمر وأخبثه.. إنه العذاب الشديد في الآخرة، والحسرة والوبال في الدنيا.
وفى قوله تعالى {وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ} حكم قاطع على هذا المكر السيّء الذي يمكره المشركون بالنبي وبدعوته، بأنه إلى بوار وضياع، لا ينالون به من الذين يمكرون به، وهو هذا الدين الذين يدعون إليه- لا ينالون منه منالا، بل سيبطل اللّه مكرهم به، ويكتب لهذا الدين الغلب والنصر، ولأهله العزة والتمكين.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} هو عرض لبعض سلطان اللّه، وقدرته، وأن له سبحانه العزة جميعا.
فهو- سبحانه- بقدرته، خلق الناس من هذا التراب الهامد. فهذا التراب هو الأصل الذي تخلقت منه النطف، التي تخلّق منها الأجنة في بطون الأمهات، ومن الأجنّة كانت المواليد، وكان الناس.
وهذا التراب، الذي يبدو أنه أصل أول في خلق الإنسان، هو في حقيقته، قد مرّ في أطوار كثيرة، حتى صار هذا التراب.. تماما كما مر الإنسان في أطوار الخلق، من النطفة إلى العلقة، إلى المضغة.. إلى آخر ما هنا لك من صور وأطوار في الخلق.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً} إشارة إلى تنويع خلق الإنسان، فكان منه الذكر والأنثى.. كما يقول سبحانه وتعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} [37- 39: القيامة].
وفى قوله تعالى: {وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ.. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} إشارة إلى أن قدرة اللّه سبحانه وتعالى، ليست واقفة عند هذا الحد من خلق هذا الإنسان من تراب، بل إن تلك القدرة قائمة على كل مخلوق، قبل خلقه، وبعد خلقه، وفى كل لحظة من لحظات وجوده وقبل وجوده.. فما تحمل من أنثى من حمل، ولا تضع من مولود، إلا وعلم اللّه قائم عليه، محيط به، ومقدر له العمر الذي يلبسه في هذه الحياة، من طول أو قصر.. فهذا كله في كتاب مبين، كتبه اللّه بعلمه، وأودعه في كتاب مبين، هو اللوح المحفوظ.
والنقص من العمر، ليس نقصا في العمر المقدّر في كتاب اللّه للكائن الحي، وإنما هو نقص بالإضافة إلى من طال عمره.. فالذى قدر له أن يعيش أياما، أو شهورا، أو بضع سنين، إنما يعيش هذا العمر المقدر له في علم اللّه، والمسطور في كتابه، وهذا العمر، هو عمر يبدو ناقصا بالنسبة لمن يعيش عشرات السنين.. أما عمره فلم ينقص منه شىء.. وذلك كله يسير على اللّه، الذي لا يئوده حفظ هذا الوجود!
قوله تعالى: {وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ومن دلائل قدرة اللّه، وكمال عزته، أنه جمع بين البحرين، وفرق بينهما في آن.. فهما في واقع الحياة كائن واحد، يتشكل من مادة واحدة هى الماء.
ومع هذا فهما طبيعتان متغايرتان.. {هذا عَذْبٌ فُراتٌ} أي ماء حلو {سائع شرابه} أي تستبغ النفس شرابه، ويلذ لها طعمه.. {وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ} أي كثير الملوحة ثم إنهما مع هذا الاختلاف، يثمران للإنسان ثمرا، يجنبه منهما على سواء، فمن الماء العذب والماء الملح، يأكل لحما طريا، هو ما يستخرج منهما من أنواع السمك.. كما يستخرج منهما حلىّ تلبس للزينة، كاللؤلؤ، والمرجان، وأنواع الصدف، وغيرها.. وعلى كلا البحرين- العذب والملح- تجرى السفن محملة بالبضائع والأمتعة، والناس وفى الآية الكريمة أكثر من إشارة.
فأولا: الناس، وأصلهم من ماء، كهذا الماء. هم هذه النطفة، وقد فرقت القدرة الإلهية بينهم، كما فرقت بين العذب والملح فهناك المؤمنون والكافرون، وهما غير متساويين، كما أن الماء العذب والماء الملح غير متساويين.
وثانيا: الماء العذب، بقا له المؤمن، والماء الملح، يقابله الكافر. والمؤمن طيب، مقبول في الحياة الإنسانية.. إنّه الحياة التي تمسك بوجودها على الصحة والسلامة، كالماء العذب، فهو الذي يمسك حياة الأحياء، ويقيم وجودها.
وثالثا: الماء الملح، وهو على ما به من ملوحة لا تقبلها النفس، يشارك الماء العذب، في استكمال حياة الناس، وفى جلب كثير من المصالح لهم. وكذلك الكافر، إنه- على ما به- يشارك في بناء الحياة الإنسانية، ويمثلّ جانبا مهمّا منها. إنه الكفة الأخرى التي يعتدل بها ميزان الحياة.. وإنه لولا الكافر، ما استبان وجه المؤمن، ولا عرف فضله، ومقامه.
ورابعا: الماء الملح، هو الكثرة الغالبة فيما على الأرض من ماء، وكذلك الكفر، هو الوجه العريض في دنيا الناس، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَما أَكْثَرُ النَّاسِ- وَلَوْ حَرَصْتَ- بِمُؤْمِنِينَ} [103: يوسف] وخامسا: أنه برسالات السماء، وهدى الرسل، يخرج المؤمنون من أحشاء هذا الكفر، وذلك بعد صراع ومعاناة.. تماما كما يخرج الماء العذب من صدر المحيطات، بفعل الرياح التي تثير أمواجها، وتخرج بخارها، وتعلو به في طبقات الجو، ثم تشكلّه سحابا، تدفع به إلى حيث أراد اللّه، وإلى حيث قدر لهذا السحاب أن ينزل من ماء.
وهناك صور كثيرة لا تنتهى، يمكن أن يراها الناظرون في الآية الكريمة، وفى النظر إلى الناس على ضوئها.
قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} ومن قدرة اللّه، وبسطة سلطانه، وكمال عزته.. أنه- سبحانه- {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ} أي أنه سبحانه يدخل الليل، بظلامه الكثيف، في أحشاء النهار، فيشتمل عليه النهار، ويستولى بسلطانه المشرق، على ظلماته المتراكمة.
فإذا الدنيا وقد خلعت هذا الرداء الأسود، ولبست ذلك الثوب النورانى، كما تلبس العروس ثوب زفافها.. وأنه سبحانه- بقدرته- {يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ} فيدخل هذا النور الساطع في أحشاء الظلام، فيستولى الظلام بسلطانه على هذا النور.. وهكذا الحياة.. نور وظلام، وخير وشر، وعذب فرات وملح أجاج، ومؤمن وكافر.
وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.. كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} أي ومن قدرته سبحانه، أنه سخر الشمس والقمر لسلطانه، وأجراهما بقدرته، كيف شاء، وأقامهما على هذا النظام المحكم الذي لا يدخل عليه أي اضطراب أو خلل: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [40: يس]- قوله تعالى: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ.. لَهُ الْمُلْكُ} أي ذلك الذي أقام الوجود على هذا النظام، واستولى بسلطانه على كل شيء فيه- هو الرب، الخالق الذي لا رب سواه ولا خالق غيره.. فمن ابتغى ربّا غيره فقد ضل، ومن عبد معبودا سواه فقد هلك.. ذلك هو ربّ العالمين- له الملك، وله الخلق والأمر.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} القطمير: هو القشرة الرقيقة التي تكون غلافا للنواة في داخل الثمرة.
أمّا الذين يعبدهم المشركون من أرباب، فإنهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.. ما يملكون جميعا قشرة من نواة.. فما أضلّ من يلتمس العزّة، ويرجو الخير ممن لا يملك شيئا.
قوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}.
أي أن هؤلاء المعبودين الذين اتخذهم المشركون أربابا لهم من دون اللّه، إن يدعهم عابدوهم إلى أي أمر، ولأية حاجة- لا يسمعوا دعاءهم.. لأنهم أحجار صمّاء، ودمى خرساء.. {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ} أي لو قدّر لهم أن يسمعوا- فرضا- أو كان فيهم من يسمع- فعلا- كالملائكة والجنّ، وغيرهم ممن يعبدهم المشركون- ما استجابوا لهم، وما أسعفوهم بما يطلبون منهم.. إنهم يطلبون شيئا ممن لا يملك شيئا.. وفاقد الشيء لا يعطيه.
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}.
وأكثر من هذا فإن هؤلاء المعبودين يلقون عابديهم يوم القيامة على عداوة لهم، وكفر بعبادتهم إياهم، وبراءة من تلك التهمة التي أرادوا أن يلصقوها بهم.
وقوله تعالى: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} إشارة إلى أن ما تحدّث به الآية من تلك الحقائق، هو الحق المطلق الذي لا شك فيه، لأنه من عند اللّه، العليم الخبير.. وهذا ما يقضى بالتصديق بهذه الأخبار، والعمل بها، وأخذ العبرة منها، لأنها ممن يعلم الغيب في السموات والأرض، وكلّ علم يخالف هذا العلم، باطل، وضلال.


{يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.
كشفت الآيات السابقة عن وجه الأرباب التي يتعبد لها المشركون، وأنها لا تسمع دعاء، ولو سمعت ما استجابت لداعيها، لأنها لا تملك شيئا.
وفى قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ} دعوة للناس أن يتجهوا بحاجاتهم إلى من يملك كل شىء، ومن بيده الخير كله.. والناس جميعا في حاجة دائمة إلى من يعينهم، ويقضى حوائجهم، وهم يتوسلون إلى هذا بكثير من الوسائل، ومنها عبادة الأصنام، والملائكة والجنّ، والملوك وأصحاب الجاه والسلطان، يبغون بذلك الخير منهم.. وكلهم إنما يتناولون ما بين أيديهم من جاء، أو سلطان، أو مال- من عطاء اللّه.. إنهم فقراء إلى اللّه.
إن حبس عنهم العطاء، كانوا أفقر الفقراء، وأضعف الضعفاء.. وإذن فالناس جميعا- غنيّهم وفقيرهم- فقير إلى اللّه.. {كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [20: الإسراء] وقوله تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} حثّ للناس على الطلب من اللّه، والرغب إليه فيما عنده.. فإنه سبحانه غنىّ، لا تنفذ خزائنه، ولا تنقص بالعطاء أبدا.. {وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [32: النساء] فهو سبحانه يستجيب لمن سأله، ويعطيه ما شاء من فضله.. وهو سبحانه {حميد} أي يحمد لعباده ما يلقون به عطاءه، من حمد وشكر، أيّا كان هذا العطاء، قليلا أو كثيرا.
إنه فضل من فضل وإحسان من إحسانه.. وإن من لا يشكر على القليل لا يشكر على الكثير.
قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي إن من فقركم إلى اللّه، أيها الناس، هو احتياجكم إليه في حفظ حياتكم.
فهو سبحانه الذي أوجدكم، وهو سبحانه الذي يحفظ عليكم وجودكم، كما يحفظ وجود الموجودات كلها: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [41: فاطر] وفى الآيتين تهديد للناس، إذا هم لم يؤمنوا باللّه، ويحمدوا له ما هم فيه من فضله وإحسانه.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [56- 58 الذاريات].. فإذا لم يؤدّ الناس واجب الشكر للّه، ولم يقوموا على الوظيفة التي خلقهم اللّه لها، لم يكونوا أهلا ليشغلوا هذا المكان، وكان أولى أن يشغله غيرهم، ممن يعرف لهذا المكان قدره، ويؤدى المطلوب منه فيه.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} [38: محمد] {وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي ليس عسيرا على اللّه أن يستبدل خلقا بخلق، وعالما بعالم، وكيف وهو الخالق لكل شى ء؟
قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ.. وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} جاءت هذه الآية تعقيبا على الآيتين السابقتين اللتين حملتا تهديدا للناس بإفنائهم جميعا، إذا هم لم يوفوا حق اللّه عليهم، من إيمان به وشكر له.
وفى هذه الآية تفرقة بين الناس، الذين وضعتهم الآيتان السابقتان وضعا واحدا في مقام التهديد.
فالناس، وإن كانوا مجتمعا واحدا، هم أشبه بالجسد الواحد، يتأثر، ويشقى بالأعضاء الضعيفة، أو الفاسدة فيه، إلا أنهم من جهة أخرى أفراد متميزون.
كلّ منهم له وجوده الذاتي، وحياته الخاصة به، وحسابه الذي يقوم عليه ميزانه في مقام الخير والشر على السواء.. فإذا نظر إلى الإنسان من خلال المجتمع، كان عليه أن يكون عضوا صالحا فيه، ثم كان عليه أيضا أن يعمل على إصلاح ما يظهر من فساد في مجتمعه.. ففى ذلك حماية له من عدوى الفساد، ومن ريحه الخبيثة، أن تفسد عليه حياته.
ثم إذا نظر إليه من خلال ذاته- صالحا كان أو فاسدا- كان التعامل معه في مقام الحساب والجزاء على أساس شخصى.. فله إحسانه كله، وعليه إساءته كلها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:- {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} والوزر: الإثم والذنب.
والوازرة. حاملة الوزر، والمراد بها ذات الإنسان.
والمعنى، أنه لا يحمل إنسان ذنب غيره، ولا يعينه في حمله، وإن كان حمله خفيفا، وحمل غيره ثقيلا، ولو كان حامل هذا الحمل الثقيل قريبا، كأب، أو ابن، أو زوج، أو أخ لمن يدعوه إلى حمل بعض ما حمل.. كما يقول سبحانه بعد هذا:
{وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى} هذا هو ميزان الحساب للناس.. لكل إنسان عند اللّه، جزاء ما عمل.
قوله تعالى:- {إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي إنما ينفع هذا البيان، وذلك النذير، من يخشى اللّه بالغيب، ويعرف جلاله وبأسه، من غير أن يراه، وإنما يرى آثاره ويشهد جلال قدرته، وعلمه، وحكمته فيما أبدع وصور في هذا الوجود.. وهذه الخشية إنما تكون عن استعداد فطرى، يقبل التعامل مع العالم غير المحسوس، عالم الغيب.. فهناك كثير من الطبائع قد تأثرت بالعالم المادي، وتشكلت ملكاتها على قوالبه، فلا تقبل التعامل إلا مع الماديات.. أما ما وراء المادة فإنها ترفض التسليم به، وتأبى التعامل معه.
وفى قصر الإنذار على الذين يخشون ربهم بالغيب، مع أن الرسول نذير وبشير للناس جميعا- في هذا إشارة إلى أن الذين ينتفعون بهذا النذير، هم الناس، وهم أهل للخطاب، وأما غيرهم، فلا حساب لهم ولا وزن في هذا المقام.
قوله تعالى: {وَأَقامُوا الصَّلاةَ} معطوف على قوله تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} وكان النظم يقضى بالتوافق في وحدة الزمن بين الفعلين المتعاطفين، فيكونان مضارعين أو ماضيين،.. ولكن جاء الحديث عن الخشية بالفعل المضارع، الذي يحمل زمنا متجددا، على حين جاء الحديث عن إقامة الصلاة بالفعل الماضي، الذي يقطع الفعل عن المستقبل، وهذا لا يكون في القرآن الكريم إلا عن حكمة، وتقدير.
والذي يبدو لنا من هذا- واللّه أعلم- أن الخشية للّه بالغيب، لا تكون إلا عن طبيعة تتقبل التعامل بما وراء المادة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، أما الطبيعة التي تلبست بها المادة، وسيطرت عليها، فلا يكون منها نظر إلى ما وراء المادة، ولا تقع منها خشية للّه، لأنها لا ترى اللّه، ولا تشهد جلاله، وسلطانه.. فالإنذار لا يفيد، ولا يؤثر، إلا إذا صادف طبيعة من شأنها أن تتقبل الإيمان بما وراء المادة، وعن هذه الطبيعة تصدر الخشية من اللّه، في كل حال، وفى كل موقف يقفه صاحب هذه الطبيعة، فيشهد في أي حال من أحواله، وفى كل موقف من مواقفه- جلال اللّه، وسلطان اللّه، فيخشاه ويتّقى حرماته، ولا يجد الجرأة على تعدّى حدوده.
ومن جهة أخرى، فإن هذه الطبيعة التي من شأنها أن تخشى اللّه بالغيب، وتتوقّى الوقوع في الإثم- هذه الطبيعة لا يقيمها على الطريق القويم، ولا يجلو بصيرتها جلاء ترى على ضوئه ما للّه- سبحانه- من كمال، وجلال، وسلطان- إلا الصلاة، وإقامتها على وجهها الصحيح.. فهى التي تعطى الخشية مضمونا ذا قيمة مؤثرة في سلوك الإنسان، كما أن الخشية هى التي تعطى الصلاة قدرا وأثرا.. فالصلاة من غير خشية لا ثمرة لها، ولا خير منها.. والخشية التي لا تغذّيها الصلاة وتنميها، هى زرع حبس عنه الماء، فلا يلبث أن يذوى، ويذبل، ثم يجفّ ويموت فمن الخشية للّه، أن تقام الصلاة، فمن لا يخشى اللّه لا يقيمها، ومن أقامها على غير خشية، فلا نفع له منها.
فخشية اللّه، هى أساس الإيمان، وملاك كل عمل يعمله المؤمن باللّه.
فإذا خلا قلب الإنسان من خشية اللّه، لم يكن ثمة إيمان، ولم يكن ثمة عمل يقوم في ظل هذا الإيمان.
وفى الحديث الشريف: «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر شاربها وهو مؤمن».
فالمراد بنفي الإيمان هنا، هو نفى الخشية من اللّه، عند ارتكاب هذه المنكرات.. فلو كان الإنسان المواجه لهذه المنكرات على خشية من اللّه ما أقدم على اقتراف واحدة منها.
فالخشية المطلوبة من المؤمن، خشية دائمة، متجددة.. ومن هنا كان التعبير عنها بفعل الاستمرار والتجدد.
أما إقامة الصلاة.. فهى عمل من أعمال المؤمن، لا يقوم إلا في ظل من خشية اللّه، ولا يثمر ثمرة طيبة إلا إذا كان عن فيض منها،. ومن هنا ارتبطت إقامة الصلاة بها، وكانت حالا من أحوالها، أو أحوال أهلها.
واختصت الصلاة بالذكر لأنها عمود الدين، فمن أقامها فقد أقام الدين.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ} [11: يس] وقوله سبحانه: {ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ}.
(2- 3: البقرة) قوله تعالى: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}.
التزكى: التطهر، من الشرك، والكفر، ومن الآثام والمنكرات.
أي ومن تطهر من الشرك والكفر، وجنّب نفسه التلوث بأقذار الآثام والمنكرات، فإنما يتطهر لنفسه، حيث تظهر آثار ذلك عليه، وتكون عائدة هذا التطهر راجعة إليه، يوم يعرض على ربه نقيا، طاهرا، فيدخل في رضوان اللّه مع الطيبين الطاهرين.
الإيحاء النفسي.. وأسلوب الدعوة:
قوله تعالى: {وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ.. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}.
فى هذه الآيات عرض لما بين الأشياء ونقيضها من تفاوت بعيد، واختلاف شديد.. وأن الشيء ونقيضه لا يستويان أبدا.
فالأعمى.. والبصير.. لا يستويان.. هذا أعمى، وذاك مبصر.
والظلمات.. والنور. لا يستويان كذلك. هذه ظلمات، وذاك نور.
والظل.. والحرور.. لا يستويان أيضا.. هذا ظل بارد، وذاك سموم حار.
والأحياء.. والأموات.. على رفى نقيض.. هؤلاء أحياء، وأولئك أموات هامدون.
ويلاحظ هنا أمران:
أولهما: جمع الظلمات، وإفراد النور.
وذلك لأن الظلمات هى ظلال أشباح، داخلة إلى عالم النور، إذ كان العالم كله نورا من نور اللّه، كما يقول سبحانه: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} فالعالم كيان واحد من نور، وهذا الظلام الذي يرى في العالم، إنما هو من ظلال تلك الأشباح الكثيفة الداخلة عليه.
ومن جهة أخرى، فإن الذي يعيش في النور، إنما يأخذ طريقا واحدا فيه إلى غايته، أما الذي يعيش في الظلمات، فإنه لا يعرف له طريقا.. بل يتحرك مضطربا على طرق شتى.
وثانيهما: تقديم الظل على الحرور، والأحياء على الأموات.. وكان النظم يقضى بتقديم الحرور على الظل، والأموات، على الأحياء، لتتسق ألوان الصورة كلها، فيكون الأسود المعتم (الأعمى، والظلمات، والحرور، والأموات)- في جانب، والأبيض المشرق (البصير، والنور، والأحياء، والظل)- في جانب آخر! فما حكمة هذا؟.
نقول- واللّه أعلم- إن الجواب على هذا من وجهين:
أولا: أنالظل هو نعمة، في مقابلة الحرور، وكذلك الحياة نعمة، في مقابلة الموت.
فقدمت هنا نعمتان، على حين قدمت قبلهما آفتان، هما العمى والظلمات.
وفى هذا التوزيع توازن لألوان الصورة، حيث جاءت هكذا:
آفتان تقابلان نعمتين.. العمى والبصر، والظلام والنور.
ونعمتان تقابلان آفتين.. الظل والحرور، والحياة والموت.
وثانيا: أن الأصل في نفى الاستواء- وهو التوازن بين الشيئين- أن يقع أولا على الناقص منهما، فيقدّم المفضول على الفاضل، كما في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ}.
(29: الحشر) وقوله سبحانه: {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ- وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
(95: النساء) هذا هو الاستعمال في أصل اللغة، فإذا خرج الاستعمال عن هذا الأصل، كان ذلك لغاية يراد لها.. كما في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [9: الزمر] وذلك حين لا يكون المراد هو تقرير حكم في المفاضلة بين أمرين، وإنما المراد هو الإلفات إلى أن الأمور ليست على وجه واحد، وإنما لكل أمر وجهان.. وجه، وضدّ لهذا الوجه.
مثل الوجود والعدم، والحق والباطل، والإيمان والكفر، والنور والظلام، والظل والحر، والعذب والملح.. وهكذا.. والمطلوب من الخصم أن يعترف به هنا، هو أن الشيء الذي يمسك به، ليس هو كل الشيء، وإنما يقابله نقيضه، الذي يجب أن ينظر فيه، ويقابل الوجه الذي معه، على الوجه الآخر، الذي لهذا الشيء.
فإذا كان المشركون يمسكون بالشرك، ولا يرون أن هناك معتقدا غيره-
فيلعلموا أن هناك وجها، آخر لا بد أن يقابل هذا الشرك، دون التفات إلى أيهما الفاضل وأيهما المفضول.. إن الأمور لا تكون إلا على هذا الازدواج.
الشيء وضده.. وليس الشرك الذي بين أيديهم بدعا من الأشياء.
فليبحثوا عن الوجه الآخر المقابل له.. فإذا فعلوا، كانت المرحلة الثانية من مراحل النظر، وهى أن يوازنوا بين ما معهم من شرك، وبين الوجه الآخر المقابل له، وهو الإيمان.
وقد جاء الأمران الأولان على الأصل، فقدّم فيهما المفضول على الفاضل، على حين جاء الأمران الآخران على غير الأصل، فقدم فيهما الفاضل على المفضول.. وبهذا أخذ كل من الفاضل والمفضول مكانه في الصورة على قدم المساواة.. لأن الأمر- كما قلنا- لم يكن يراد منه المفاضلة، وإنما المراد هو إثبات تلك الحقيقة التي لا خلاف عليها، وهى الازدواج في الأشياء، والتقابل بين الشيء وضده.
وفى مجىء المقطع الأول من الصورة، على أصل الوضع في اللغة، الذي يتفق مع مجرى التفكير، وذلك بتقديم المفضول على الفاضل، في مقام الموازنة والمفاضلة بينهما- في هذا التقاء مع المشركين على أمر لا خلاف عليه، بين مؤمن وغير مؤمن.. وهذا من شأنه ألّا يصدم تفكيرهم، ولا يخرج بهم عن مألوفهم، الأمر الذي يدعوهم إلى الاستماع إلى هذا الذي يعرض عليهم، وإلى النظر فيه.
فإذا وقع مقطع هذا الحديث من أنفسهم هذا الموقع، واجههم المقطع الآخر من الصورة، وهو مقطع قد انقلب فيه الوضع، وانعكست فيه مواقع الأمور، فقدّم ما حقه التأخير، وأخّر ما حقه التقديم، وفى هذا إشارة إلى أمرين:
أولهما: أن المشركين قد انعكست في أنفسهم حقائق الأشياء، وأنهم إنما ينظرون إلى الأمور، وهم في وضع منكوس، وأنهم لو اعتدلوا في وضعهم لرأوا هذا المقطع من الصورة على حقيقته.. إنهم يعيشون في الحرور ويحسبونه الظلّ، وهم أموات، ويحسبون أنهم أحياء.. هذا هو وضعهم، فإذا شكّووا في هذا فلينظروا في هذا المقطع من الصورة التي بين أيديهم، وسيرون أن الحرور أفضل من الظل، وأن الميت أكثر حياة من الحىّ.. وبهذا ينكشف لهم الوضع المقلوب، الذي ينظرون فيه إلى الأشياء.
وثانيهما: أنهم لو أرادوا أن يقيموا الصورة كلها على وضع سليم، لكان عليهم أن يغيّروا بأيديهم هذا الوضع الذي أخذه المقطع الثاني من الصورة، وأن يجعلوه موافقا للوضع الأول، فيقدموا الحرور على الظل، والأموات على الأحياء، وبهذا يكون الحكم على المطلوب صادرا منهم، فتجىء الصورة العامة هكذا:
{وما يستوى الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الحرور ولا الظل ولا الأموات ولا الأحياء}.
إنها عملية تدعو إلى تحريك العقل، وإلى أن يعمل عملا جادّا على تسوية هذه المتناقضات.. فإذا اتجهت عقولهم إلى هذا الاتجاه، كان من طبيعة الأمور ألّا ترصى عقولهم بهذه المتناقضات، التي تقوم في كيانهم، حيث يؤثرون الضلال على الهدى، والكفر على الإيمان.. وهكذا تجىء آيات اللّه، بهذه الإيحاءات النفسية، التي تدخل العقل في رفق ولطف، إلى مواطن الهدى، ومواقع الخير.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ}.
إشارة إلى أن الناس فريقان:
فريق يسمع آيات اللّه ويستجيب لها، وفريق لا يسمع ولا يستجيب.
هذه بديهة تنطق بها الحقيقة المنتزعة من المقدمة السابقة، التي عرضت فيها هذه الأمور الأربعة.
وفى إسناد الإسماع إلى اللّه تعالى، إشارة إلى أن هذا الأمر كلّه بيد اللّه، وكل شيء معلق بمشيئته: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [39: الأنعام]:
وقوله تعالى: {وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} تيئيس للمشركين الذين استولى عليهم الشرك، أن يكونوا في السامعين، وإراحة للرسول من بذل الجهد في سبيل إسماعهم.. إنهم أموات.. وليس من عمل الرسول أن يسمع الأموات.. {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}.
(80: النمل) {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ}.
فهذا هو عمل الرسول.. إنه نذير، ينذر هؤلاء الضالّين، ويخوفهم عذاب اللّه، وليس من شأنه أن يفتح آذانهم التي أصمها اللّه عن أن تسمع كلماته.. وقد اقتصر هنا على جانب من رسالة الرسول، وهو الإنذار، لأن الخطاب في مواجهة المشركين، الذين لن يؤمنوا أبدا، والذين ليس لهم إلا ما تحمل إليهم النذر من عذاب، وبلاء.

1 | 2 | 3